تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
القراءة
قرأ ابن كثير أبي لهب ساكنة الهاء و الباقون بفتحها و اتفقوا في «ذات لهب» أنها مفتوحة الهاء لو فاق الفواصل و قرأ عاصم «حمالة الحطب» بالنصب و الباقون بالرفع و روي
عن البرجمي سيصلى بضم الياء و هي قراءة أشهب العقيلي و أبي رجاء و في الشواذ قراءة ابن مسعود و مريئته حمالة للحطب في جيدها حبل من مسد.
الحجة
قال أبو علي يشبه أن يكون لهب و لهب لغتين كالشمع و الشمع و النهر و النهر و اتفاقهم في الثانية على الفتح يدل على أنه أوجه من الإسكان و كذلك قوله و لا يغني من اللهب و أما حمالة الحطب فمن رفع جعله وصفا لقوله «و امرأته» و يدل على أن الفعل قد وقع كقولك مررت برجل ضارب عمرا أمس فهذا لا يكون إلا معرفة و لا يقدر فيه إلا الانفصال كما يقدر في هذا النحو إذا لم يكن الفعل واقعا و أما ارتفاع امرأته فيحتمل وجهين (أحدهما) العطف على فاعل سيصلى التقدير سيصلى نارا هو و امرأته إلا أن الأحسن أن لا يؤكد لما جرى من الفصل بينهما و يكون «حمالة الحطب» على هذا وصفا لها و يجوز في قوله «في جيدها» أن يكون في موضع حال و فيها ذكر منها و يتعلق بمحذوف و يجوز فيه وجه آخر و هو أن يرتفع امرأته بالابتداء و حمالة وصف لها و في جيدها خبر المبتدأ و أما النصب في «حمالة الحطب» فعلى الذم لها كأنها كانت اشتهرت بذلك فجرت الصفة عليها للذم لا للتخصيص و التخليص من موصوف غيرها و قوله «حبل» معناه غليظ رجل حبل الوجه و حبل الرأس.
اللغة
التب و التباب الخسران المؤدي إلى الهلاك و المسد الحبل من الليف و جمعه أمساد قال:
و مسد أمر من أيانق
ليس بأنياب و لا حقائق
النزول
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال صعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم الصفا فقال يا صباحاه فأقبلت إليه قريش فقالوا له ما لك فقال أ رأيتم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أ ما كنتم تصدقوني قالوا بلى قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك لهذا دعوتنا جميعا فأنزل الله هذه السورة أورده البخاري في الصحيح.
المعنى
«تبت يدا أبي لهب و تب» أي خسرت يداه و خسر هو عن مقاتل و إنما قال خسرت يداه لأن أكثر العمل يكون باليد و المراد خسر عمله و خسرت نفسه بالوقوع في النار و قيل أن اليد هنا صلة كقولهم يد الدهر و يد السنة قال:
و أيدي الرزايا بالذخائر مولع و قيل معناه صفرت يداه من كل خير قال الفراء: الأول دعاء و الثاني خبر فكأنه قال أهلكه الله
و قد هلك و في حرف عبد الله و أبي و قد تب و قيل أن الأول أيضا خبر و معناه أنه لم تكتسب يداه خيرا قط و خسر مع ذلك هو نفسه أي تب على كل حال و أبو لهب هو ابن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان شديد المعاداة و المناصبة له قال طارق المحاربي: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا و إذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه و عرقوبيه و يقول يا أيها الناس أنه كذاب فلا تصدقوه فقلت من هذا فقالوا هو محمد يزعم أنه نبي و هذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب و إنما ذكر سبحانه كنيته دون اسمه لأنها كانت أغلب عليه و قيل لأن اسمه عبد العزى فكره الله سبحانه أن ينسبه إلى العزى و أنه ليس بعبد لها و إنما هو عبد الله و قيل بل اسمه كنيته و إنما سمي بذلك لحسنه و إشراق وجهه و كانت وجنتاه كأنهما تلتهبان عن مقاتل «ما أغنى عنه ماله و ما كسب» أي ما نفعه و لا دفع عنه عذاب الله ماله و ما كسبه و يكون ما في قوله «و ما كسب» موصولة و الضمير العائد من الصلة محذوف و قيل معناه أي شيء أغنى عنه ماله و ما كسب يعني ولده لأن ولد الرجل من كسبه و ذلك أنه قال لما أنذره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنار إن كان ما تقول حقا فإني أفتدي بمالي و ولدي ثم أنذره سبحانه بالنار فقال «سيصلى نارا ذات لهب» أي سيدخل نارا ذات قوة و اشتعال تلتهب عليه و هي نار جهنم و في هذا دلالة على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و صحة نبوته لأنه أخبر أن أبا لهب يموت على كفره و كان كما قال «و امرأته» و هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان «حمالة الحطب» كانت تحمل الشوك و العضاة فتطرحه في طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خرج إلى الصلاة ليعقره عن ابن عباس و في رواية الضحاك قال الربيع بن أنس كانت تبث و تنشر الشوك على طريق الرسول فيطأه كما يطأ أحدكم الحرير و قيل أنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس فتلقي بينهم العداوة و توقد نارها بالتهييج كما توقد النار الحطب فسمى النميمة حطبا عن ابن عباس في رواية أخرى و قتادة و مجاهد و عكرمة و السدي قالت العرب فلان يحطب على فلان إذا كان يغري به قال
و لم يمش بين الحي بالحطب الرطب أي لم يمش بالنميمة و قيل حمالة الحطب معناه حمالة الخطايا عن سعيد بن جبير و أبي مسلم و نظيره قوله و هم يحملون أوزارهم على ظهورهم «في جيدها حبل من مسد» أي في عنقها حبل من ليف و إنما وصفها بهذه الصفة تخسيسا لها و تحقيرا و قيل حبل يكون له خشونة الليف و حرارة النار و ثقل الحديد يجعل في عنقها زيادة في عذابها و قيل في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا تدخل من فيها و تخرج من دبرها و تدار على عنقها في النار عن ابن عباس و عروة بن الزبير و سميت السلسلة مسدا بمعنى أنها ممسودة أي مفتولة و قيل أنها كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت لأنفقنها في عداوة محمد فيكون عذابا يوم القيامة في عنقها عن سعيد بن المسيب و يروى عن أسماء
بنت أبي بكر قالت لما نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول
مذمما أبينا و دينه قلينا
و أمره عصينا و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس في المسجد و معه أبو بكر فلما رآها أبو بكر قال يا رسول الله قد أقبلت و أنا أخاف أن تراك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنها لن تراني و قرأ قرآنا فاعتصم به كما قال و إذا قرأت القرآن جعلنا بينك و بين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فوقفت على أبي بكر و لم تر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت يا أبا بكر أخبرت أن صاحبك هجاني فقال لا و رب البيت ما هجاك فولت و هي تقول قريش تعلم إني بنت سيدها و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال صرف الله سبحانه عني أنهم يذمون مذمما و أنا محمد و متى قيل كيف يجوز أن لا ترى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد رأت غيره فالجواب يجوز أن يكون الله قد عكس شعاع عينيها أو صلب الهواء فلم ينفذ فيه الشعاع أو فرق الشعاع فلم يتصل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ما زال ملك يسترني عنها و إذا قيل هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة و هل كان يقدر على الإيمان و لو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى نارا ذات لهب فالجواب أن الإيمان يلزمه لأن تكليف الإيمان ثابت عليه و إنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن أ لا ترى إلى قوله سبحانه في قصة فرعون «الآن و قد عصيت قبل» و في هذا دلالة على أنه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه و لهذا خص رد التوبة عليه بذلك الوقت و أيضا فلو قدرنا أن أبا لهب سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لو آمنت هل أدخل النار لكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول له لا و ذلك لعدم الشرط